الخميس، 25 أبريل 2024

رسالة جوابية من مواطن إلى فخامة رئيس الجمهورية


فخامة الرئيس،

كان لي الشرف أن تلقيتُ رسالتكم التي وجهتم إليَّ، وذلك بصفتي مواطنا وناخبا، وبمناسبة تسلمي لهذه الرسالة المتميزة، فإني أجدد لكم دعمي، وصوتي سيكون لكم بإذن الله، ولأسباب عديدة بسطتها في مقالات سابقة، ولا أراني بحاجة إلى الحديث عنها في هذه الرسالة المختصرة، والتي سأكتفي فيها بالتوقف مع ثلاث قضايا فقط من بين قضايا كثيرة أخرى تحدثتم عنها في رسالتكم، والتي شكلت ـ بالمناسبة ـ خروجاً عن مألوف إعلانات الترشح، وهو خروج نال ما يستحق من استحسان وترحيب. 

سأتوقف في هذه الرسالة مع ثلاث قضايا أو ملفات، وسأقدم بعض الملاحظات والمقترحات، والتي يشاركني فيها ـ يا سيادة الرئيس ـ الكثير من داعميكم الصادقين والمخلصين، والذين لا ينتظرون من دعمكم أي مقابل من أي نوع.

وهنا سأكشف سرا، وذلك لأقول بأن هناك مجموعة من الداعمين كانت تفكر بالفعل خلال الأيام الماضية في الإعلان عن إطلاق  مبادرة داعمة تبدؤها بتأكيد أنها لا تريد لأعضائها أي تمييز خاص، مهما كانت طبيعته، وإنما تريد أولا وأخيرا دعمكم في حملتكم الانتخابية لتواصلوا ما حققتم من إنجازات، ولتصححوا ما رصدتم من اختلالات ونواقص خلال مأموريتكم الأولى.

وكان من أبرز النواقص التي كانت ستتحدث عنها المبادرة، النواقص التي أشرتم إليها في رسالتكم الموجهة إلى المواطن، وكان من أبرز الملاحظات والمقترحات التي كانت ستتقدم بها تلك المبادرة هي ما سيأتي هنا في ثنايا هذه الرسالة.

فخامة الرئيس،

لقد وُفقتكم كثيرا في القول بأن مأموريتكم القادمة "ستكون بالشباب ومن أجل الشباب"، وسعيا لتحقيق ذلك، فهذه بعض الأفكار والمقترحات، والتي تشكل في مجملها أهم مطالب الشباب : 

1 ـ مواصلة الاهتمام بالتكوين المهني في المأمورية القادمة، والعمل على توفير المزيد من القروض الميسرة للشباب؛

2 ـ العمل خلال المأمورية القادمة على خلق هجرة شبابية واسعة إلى الزراعة، وتوفير الدعم الحكومي اللازم لذلك، وهو ما قد يحقق أمرين في غاية الأهمية : امتصاص بطالة الشباب، وتحقيق الاكتفاء الذاتي للبلد؛

3 ـ إشراك الشباب من حملة الشهادات العليا في عضوية ورئاسة مجالس الإدارات، وذلك حسب التخصص وعلاقته بالإدارة المعنية، بدلا من إبقاء رئاسة مجالس تلك الإدارات حكرا على المتقاعدين والوجهاء؛

4 ـ تسيير فرص التوظيف المتاحة بطرق تسمح بولوج أبناء الفقراء لتلك الوظائف، وذلك من خلال وضع سياسة تمييز إيجابي في التوظيف لصالح الأسر التي لديها ثلاثة أبناء إلى ما فوق من حملة الشهادات العاطلين عن العمل، فمن الملاحظ أن أبناء المنحدرين من الأسر الميسورة لا يعانون من البطالة، وذلك في وقت يظل فيه عدد العاطلين عن العمل في ازدياد لدى الأسر الأكثر فقرا.

من الناحية العملية فقد أصبح من الممكن تنفيذ سياسة للتمييز الإيجابي في مجال التوظيف، وذلك بفضل التطور الحاصل في عمل الوكالة الوطنية لسجل السكان والوثائق المؤمنة؛

5 ـ تنظيم أيام تشاورية مع بداية المأمورية الثانية يشارك فيها أكبر عدد ممكن من الشباب، وتناقش فيها المشاكل والتحديات التي يواجهها الشباب، وتقدم فيها توصيات للحكومة من أجل تنفيذها؛

6 ـ الرفع من المكانة لبروتوكولية للوزارة المعنية بقضايا الشباب، ومنحها المزيد من الموارد المالية؛

7 ـ تشجيع التميز وتحفيز التفوق والابتكار لدى الشباب؛

8 ـ  منح المزيد من الاهتمام للمواهب الشبابية في مختلف المجالات، وذلك باعتبار تلك المواهب ثروة وطنية يجب استغلالها، والإعلان عن يوم وطني للمواهب يتم فيه رصد كل المواهب في مختلف المجالات الثقافية والرياضية والعلمية، والتي تمكنت من المشاركة في منافسات إقليمية ودولية، واستقبالها من طرفكم في القصر الرئاسي تشجيعا لها على رفع العلم الوطني، وتمثيل موريتانيا في المنافسات الإقليمية والدولية؛

9 ـ إطلاق جائزة باسم رئيس الجمهورية للمقاولات الشبابية الناجحة؛ 

يبقى أن أقول في الأخير بأن الاهتمام بالشباب لا ينحصر فقط في الاهتمام بفئة عمرية محددة ، وإنما يتجاوز ذلك ـ وهذا هو الأهم ـ إلى تغيير العقليات وتجديد أساليب التعاطي مع الشأن العام لتصبح أكثر شبابية، وأكثر مسايرة للعصر.

فخامة الرئيس،  

لقد وفقتم كذلك في القول بأنكم ستضربون بيد من حديد، وستواجهون بكل قوة وصرامة، كافة مسلكيات وممارسات الفساد والرشوة والتعدي على المال العام.

لا شك في أن لهذه الجملة طعمها الخاص، ولها وقعٌ إيجابي في قلوب الكثير من داعميكم الصادقين والمخلصين.

نعم هذه الجملة لها وقعها الخاص، ويرى الكثير من داعميكم، أن تحقيق ما جاء فيها يستوجب جملة من الإجراءات لعل من أبرزها:

1 ـ أن تكون المأمورية القادمة فترة لمحاسبة كل من مارس فسادا في المأمورية الماضية، وأن تكون محاسبة "مفسدي المأمورية الأولى" أكثر صرامة من محاسبة "مفسدي العشرية"، وهذا هو ما يجب أن يكون، فإذا كان المفسد يجب أن يعاقب في كل الأحوال، فإن معاقبة المفسد الذي أفسد في ظل عهدكم يجب أن تكون أكثر قسوة من محاسبة المفسد الذي أفسد من قبل وصولكم إلى الحكم؛

2 ـ أن يكون لمحاربة الفساد في المأمورية القادمة ضحايا، فأي حرب لا يسقط فيها "قتلى" و "جرحى" و لا يقع فيها "أسرى"،  لن ترقى في مخيلة الكثيرين إلى مستوى الحرب، ولن يصنفوها ـ بالتالي ـ على أنها كانت حرب؛

3 ـ إن أي حرب على الفساد يجب أن تبدأ أولا بمراجعة ملف التعيينات، وباتباع أساليب صارمة جدا في اختيار من سيتم تعيينهم وترقيتهم، وبشكل يضمن حضور الكفاءة وغياب شبهة الفساد عند كل تعيين أو ترقية وظيفية خلال المأمورية القادمة.

فخامة الرئيس،

إن حديثكم عن وجود خلل في الإدارة، وعن ضرورة عصرنتها، هو حديث لا يقل أهمية عما سبقه، والإدارة لن تكون فعالة إلا إذا تم تفعيل مبدأ المعاقبة والمكافأة، فالموظف الذي يُقَصر في عمله، ولا يؤديه على أحسن وجه، وذلك بعد أن يكون قد مُنح صلاحيات كافية، فمثل ذلك الموظف يجب أن يُقال، ودون النظر في أي اعتبارات أخرى، حتى وإن كان داعما، وفي الصف الأول. إن دعم هذا النوع من الموظفين ضره أكثر من نفعه، فمن يقدم "خدمة عمومية سيئة" للمواطن سيجلب من سخط المواطنين ما لا يمكن أن تعوضه عشرات، بل ومئات المبادرات السياسية الداعمة. وفي المقابل فإن الموظف الذي يؤدي عمله على أحسن وجه يجب أن ينال ما يستحق من مكافآت وترقيات، وبغض النظر عن أي شيء آخر. فمثل هذا الموظف سيجلب للنظام دعما شعبيا كبيرا من خلال ما يقدم من "خدمة عمومية متميزة" للمواطن، حتى وإن لم يُطلق مبادرة سياسية واحدة داعمة.

إن الإدارة لن تتحسن إلا إذا شعر جميع موظفيها بأن من أدى عمله على أحسن وجه سينال حتما ما يستحق من ترقية، وأن من فشل في تأدية عمله ستتم إقالته، ولا يمكن أن تتحسن الإدارة ألاَّ إذا تولد هذا الشعور لدى جميع العاملين فيها، وخاصة لدى كبار الموظفين.

طبعا يقتضي كل هذا أن يكون هناك نظام رقابة فعال على أداء الموظفين..

فخامة الرئيس،

لقد حاولتُ في هذه الرسالة، والتي جاءت ردا على رسالتكم التي وجهتموها إلينا بصفتنا مواطنين أولا وداعمين ثانيا، أن أنقل إليكم  وبكل صدق وتجرد ما يتوقعه في المأمورية الثانية الكثير من داعميكم الصادقين والمخلصين، والذين قد لا تُتاح لهم الفرصة للقائكم ليحدثوكم بشكل مباشر.

فخامة الرئيس، هذا هو ما يتوقعه منكم داعموكم الصادقون والمخلصون، بخصوص هذه الملفات، وإذا كان لي أن أضيف شيئا، فسيكون مطلبا خاصا بنا في الحملة الشعبية للتمكين للغة العربية وتطوير لغاتنا والوطنية، وأظن أن الكثير من الموريتانيين يتقاسمه معنا، وهذا المطلب سيفيد ـ وبلا شك ـ  في تقريب خدمات الإدارة من المواطن.

إننا نعتقد في الحملة أن الشرط الأول في إصلاح الإدارة يتمثل في تقريب خدماتها من المواطن، والشرط الأول في تقريب خدمات الإدارة من المواطن يتمثل في مخاطبته بلغته الرسمية التي يفهمها أو يفرض فيه أنه يفهمها.

وفقكم الله لما فيه خير البلاد والعباد..

حفظ الله موريتانيا..

الثلاثاء، 23 أبريل 2024

سبع فرضيات غير متماسكة منطقيا!


أجدني مضطرا لأن أقول بأني عاجز تمام العجز عن فهم الأسباب التي تجعل الرئيس المالي، وهو الغارق في المشاكل من رأسه حتى أخمص قدميه، يسعى إلى فتح جبهة صراع جديدة مع موريتانيا، البلد الشقيق الجار، والذي رفض إغلاق حدوده مع مالي، ورفَضَ ـ بالتالي ـ أن يُشارك في الحصار الذي فرضته دول المنطقة على مالي بعد الانقلاب الذي جاء برئيسها الحالي إلى الحكم.
لا أجد تفسيرا متماسكا من الناحية المنطقية لفهم ما يحدث، وهناك سبع فرضيات يتم الحديث عنها، ولكني لم استطع ـ حتى الآن ـ  أن ابتلع أي فرضية من تلك الفرضيات السبع.
الفرضية الأولى : الروس هم من يقفون وراء ما يحدث
هناك من يحاول تفسير التصعيد المالي ضد موريتانيا بدخول لاعب جديد في المنطقة، وهو لاعب معروف أصلا بخشونته في اللعب، وهذه الفرضية قد تبدو في ظاهرها معقولة جدا، ولكن هناك بعض الأسئلة التي إن  طُرحت فإنها ستصيب هذه الفرضية في مقتل. فإذا كانت روسيا هي التي أصبحت تتحكم في القرار العسكري في مالي عن طريق "فاغنر"، وإذا كانت هي من يُصعد حاليا ضد موريتانيا، فمن ذا الذي يُصعد ضد الجزائر؟ ألا تعدُّ الجزائر من الدول الإفريقية الأقرب إلى روسيا، فبأي منطق يعاديها حاكم إفريقي يتحكم فيه الروس؟ ثم ما هي مصلحة روسيا، والتي تحاول أن تستغل بغض الشعوب لمستعمرها القديم للتغلغل في إفرقيا، ما مصلحتها في خلق عداء مع موريتانيا؟.
الفرضية الثانية : فتشوا عن الإمارات
هناك من يذهب به الخيال بعيدا، ويُحاول أن يربط ما يجري في المنطقة بالإمارات، ويقول إن لهذا التصعيد "علاقة ما" بالإمارات والغاز. على من يدفع بهذه الفرضية أن يتذكر أن رئيس موريتانيا في الوقت الحالي يُعَدُّ صديقا للإمارات، ولموريتانيا والإمارات علاقات قوية في الوقت الحالي، وللتذكير فإن موريتانيا قد وقعت مؤخرا اتفاقيات ومذكرات تفاهم مع شركات إماراتية في مجال الطاقة، ثم إن الإمارات لا تمتلك من التأثير على حاكم مالي ما يمكنها من جره إلى صدامات لا مصلحة له فيها، ولا يرغب فيها أصلا. 
بكلمة واحدة : لا مصلحة للإمارات في خلق مشاكل وتوترات حدودية لدولة شقيقة وصديقة، يحكمها رئيس أقل ما يمكن أن يُقال عنه أنه هو أفضل صديق لها في المنطقة.
الفرضية الثالثة : ما يجري هو من تدبير المغرب
هناك من يدفع بفرضية ثالثة مفادها أن المملكة المغربية هي التي تشجع حاكم مالي على التصعيد، وهذه فرضية قد تبدو مقبولة من حيث المبدأ، ولكن إذا أخذنا بها فسيكون من حقنا أن نسأل عن مصلحة المغرب في خلق عداوات مع موريتانيا في هذا الوقت بالذات؟ ألن تدفع تلك العداوات بموريتانيا أن تترك دائرة الحياد الإيجابي بين المغرب والجزائر وتبدلها بدائرة التخندق الصريح والواضح مع بقية بلدان المغرب العربي، والتي  يسعى قادتها إلى خلق اتحاد مغاربي جديد تكون المغرب خارجه؟
ألم يغب الرئيس الموريتاني عن قمة الجزائر الثلاثية التي جمعت الرئيس الجزائري والتونسي ورئيس المجلس الرئاسي الليبي المنعقدة في الجزائر يوم الثلاثاء 5 مارس 2024؟ ألم يغب عن القمة التشاورية التي نُظمت اليوم (الاثنين 22 إبريل 2024) في تونس وحضرها الرؤساء الثلاثة؟
فأي مصلحة للمغرب في توتير الأجواء مع موريتانيا في الوقت الحالي، مع العلم أن ذلك قد يترتب عليه ـ على الأقل ـ  أن تنضم موريتانيا للتحالف المغاربي الثلاثي، فتصبح بذلك المغرب دولة معزولة مغاربيا، وربما تترتب عليه مواقف أخرى أقوي في قضية الصحراء.
الفرضية الرابعة: هذا تصعيدٌ فرنسي لا لُبْس فيه
هذه الفرضية الرابعة هي الفرضية الأقوى، وهي الأكثر تماسكا من الناحية المنطقية، ففرنسا التي أُرْغِمت على الخروج  في وضح النهار من مالي، لن تغفر ذلك لحاكم مالي الجديد، ولن تقبل بالتفرج على انفراط عقدها في إفريقيا وهي مكتوفة الأيادي، ومن المؤكد أنها فكرت ودبرت وبحثت عن الوسائل الأكثر خبثا والأشد فتكا، لمعاقبة حاكم مالي الذي شكل خروجه من العباءة الفرنسية، بداية لخروج حكام آخرين في المنطقة من عباءة فرنسا (استخدمتُ هنا كلمة عباءة  وكررتها عن قصد، وذلك لأني أعلم أن  فرنسا لا تحب استخدام كلمة العباءة، ولا أي كلمة أخرى لها صلة بالستر أو الحجاب).
لا خلاف على أن فرنسا هي أول من يجب أن توجه إليه أصابع الاتهام في أي توتر في المنطقة، وفرنسا قد يكون لها عملاؤها في الجيش المالي الذين قد يتعمدون قتل الموريتانيين بهدف تأجيج الصراع بين الدولتين الجارتين والشقيقتين، وفرنسا قد يكون لها كذلك عملاؤها في الحركات المسلحة، وهؤلاء قد يقومون بالدور نفسه لتأجيج الصراع.
إن اتهام فرنسا سيبقى هو الفرضية الأقوى، ولكن تبقى هذه الفرضية مهددة بسلوك وتصرفات الرئيس المالي، والذي من المؤكد أنه لا يأتمر بأوامر فرنسا. فلو كانت فرنسا هي من يقف وراء المجازر التي ارتكبت في حق الموريتانيين العُزَّل، وأن من نفذ تلك المجازر هم بعض عملائها في الجيش المالي أو في بعض الحركات المسلحة، لو كان الأمر كذلك، لبالغ الرئيس المالي في التقرب من موريتانيا، وفي الاعتذار لها، حتى لا تنجح الحيل الفرنسية في جر البلدين إلى الصدام، فذلك هو ما يقتضيه التحليل السياسي المتماسك. ومن الملاحظ أن الرئيس المالي لم يبذل جهدا في هذا المجال، بل على العكس من ذلك، فسلوكه في الفترة الماضية كان أقرب لمن يريد أن تلصق به التهمة، من سلوك من  يريد أن يدفع عنه تلك التهمة، حتى يُظهر للجميع براءته مما حدث، وأن ما حدث كان من تدبير عملاء فرنسا.
الفرضية الخامسة : لا تذهبوا بعيدا فعاصيمي غويتا هو المسؤول
هناك فرضية خامسة تقول بأنه لا علاقة  للخارج بما يجري من تصعيد ضد موريتانيا، وأن الانقلابي عاصمي غويتا هو المسؤول الأول والأخير عما يحدث. هنا يبرز السؤال : ما مصلحة حاكم مالي في توتير الأجواء مع موريتانيا خاصة، وأن موريتانيا هي الدولة الجارة الوحيدة التي رفضت أن تُشارك في حصار مالي  بعد الانقلاب الأخير؟ وما مصلحة غويتا في أن يخاصم الجميع في وقت واحد، فهو في خصام مع المعارضة المالية، وفي خصام آخر مع الحركات المسلحة المالية، وفي خصام مع  المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وفي خصام مع الاتحاد الإفريقي، وفي خصام مع الجزائر، وفي خصام مع فرنسا، فبأي منطق يضيف إلى كل هذه الخصومات تصعيدا جديدا مع موريتانيا؟
صحيحٌ أن توتير الأجواء بين البلدين الجارين الشقيقين، واللذين تربط بينهما حدود طويلة جدا تصل إلى 2237 كلم سيتضرر منه البلدان، وصحيح كذلك أن مصلحة البلدين تتمثل في تجنب أي توتر من هذا القبيل. كل ذلك صحيح، ولكن الصحيح أيضا أن مالي ستكون هي الخاسر الأكبر، فموريتانيا لديها الكثير من أوراق الضغط على حاكم مالي، ومن تلك الأوراق دعم الحركات المسلحة في مالي والاعتراف ببعضها، وغلق الحدود في وجه البضائع القادمة إلى مالي من ميناء نواكشوط، وطرد آلاف العمال الماليين ..إلخ.
  إن القول بأن حاكم مالي هو من يحاول توتير الأوضاع، هو قول لا يستقيم منطقيا، وذلك لأنه لا مصلحة واضحة له في فتح جبهة صراع جديدة مع موريتانيا.
الفرضية السادسة : افتعال أزمة خارجية من أجل الخروج من أزمة داخلية
هناك فرضية معقولة جدا، وهي أنه عندما تتعقد الأمور في الداخل على رئيس دولة ما، فإنه قد يفكر في هذه الحالة في خلق أزمة خارجية لإشغال المواطنين عن مشاكلهم وأزماتهم الداخلية. نعم هذه فرضية منطقية، ويمكن أن ندفع بها لتفسير التصعيد في مالي، ولكن مشكلتها هي أن الأحوال في مالي ومع الإعتراف بسوئها حاليا، إلا أنها لم تزدد سوءا أكثر مما كانت عليه عند حصول الانقلاب، بل على العكس من ذلك فحصار مجموعة غرب إفريقيا لمالي بدأ يخف، وعقوبات الاتحاد الإفريقي بدأت تتراخى، ودول الجوار شهد بعضها انقلابات تحالف أصحابها مع حاكم مالي، وبدؤوا يشكلون حلفا، ولذا فإن هذه الفرضية غير مقنعة ـ على الأقل ـ في الوقت الحالي.
الفرضية السابعة : ومن الحماقة ما قتل
قد نقبل بفرضية تقول بأن حاكم مالي هو من يقف بالفعل وراء توتير الأوضاع على حدودنا الشرقية، ولكننا لن نقبل بهذه الفرضية  إلا إذا افترضنا أيضا أن حاكم مالي يعاني من  مستوى من الجهل والحماقة قد يدفعان به إلى اتخاذ خطوات غير محسوبة، وغير مدروسة، وأن يتصرف تصرفات غبية وحمقى، قد تجلب له من الضرر ما لا طاقة له به، وبهذا نفسر ما يقوم به حاليا من تصعيد ضد موريتانيا.
سآخذ ـ مؤقتا ـ  بهذا الفرضية السابعة، وسأظل متمسكا بها، وحتى إشعار جديد.
ويبقى أن أقول ختاما إن بعض هذه الفرضيات المبينة أعلاه  يُظهر العديد من نقاط القوة التي تمتلكها موريتانيا، والتي عليها أن تستغلها أحسن استغلال. وبخصوص التصعيد المالي، فعلى موريتانيا أن تظهر المزيد من الحزم، وأن تصعد ضد حاكم مالي حتى يرتدع، ويجب أن يتم ذلك التصعيد في إطار محدد يُجنب البلدين الدخول  في صدام مسلح سيتضرر منه الجميع.
حفظ الله موريتانيا..

الاثنين، 22 أبريل 2024

عن دور مجلة العربي في التعريف بموريتانيا*




في النصف الثاني من عقد الستينيات من القرن الماضي، وفي فترة كانت فيها موريتانيا تسعى للانضمام إلى الجامعة العربية، وبأمس الحاجة لمن يقدمها إلى العرب... في تلك الفترة ظهرت ثلاثة استطلاعات خلال ثلاث سنوات متتالية في مجلة العربي، كان لها الفضل الكبير في التعريف بموريتانيا في الوطن العربي.

جاءت هذا الاستطلاعات  الثلاثة في زاوية العربي الشهيرة: "أعرف وطنك أيها العربي"، ونشِرت  في الأعوام: 1967 و1968 و1969.

لا يحتاج من طالع تلك الاستطلاعات الثلاث إلى جهد فكري كبير ليستنتج أن من يقف وراءها، كان يسعى بالفعل ـ وبكل صدق ـ  إلى تعريف العرب بموريتانيا، وكان الاستطلاع الأول من تلك الاستطلاعات مناسبة لوصول أول بعثة صحفية عربية إلى موريتانيا، وتشكلت هذه البعثة من الصحفي الشهير سليم زبال، والذي كان يتولى الاستطلاعات والإخراج الفني للمجلة، والمصور أوسكار متري  الذي كان يتكفل بالصور، وهما بالإضافة إلى رئيس تحرير المجلة  الدكتور أحمد زكي شكلوا نواة أول فريق لمجلة العربي عند انطلاقها في شهر ديسمبر من العام 1958، وكان الأديب والشاعر الكويتي  أحمد السقاف ـ وبتكليف من أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح رحمه الله، والذي كان يرأس حينها دائرة المطبوعات والنشر ـ  هو من اختار الدكتور أحمد زكي لتولي إطلاق مجلة ثقافية تكون هدية الكويت إلى العرب، فجاءت مجلة العربي.

نُشِر الاستطلاع الأول عن موريتانيا في  العدد رقم 101  الصادر في فاتح شهر إبريل من العام 1967، وكان تحت عنوان : " نواكشوط أحدث عاصمة في أقصى منطقة من وطننا العربي".

شكلت استطلاعات "أعرف وطنك أيها العربي" جديد مجلة العربي، وكانت مع زوايا أخرى من أهم ميزات المجلة الناشئة، وقد رفض الراحل الدكتور أحمد زكي استخدام كلمة ربورتاج، لأنها كلمة أجنبية، فجاءت كلمة استطلاع.

يقول سليم زبال في أول استطلاع للعربي عن موريتانيا : "وفي هذا الاستطلاع بالذات نعلم أن موريتانيا لم تُقبَل بَعدُ في الجامعة العربية لاعتبارات سياسية، لا يمكن أن تمنع العربي من استطلاع  قطر هو جزء من الأمة."

ويختم سليم زبال استطلاعه الأول عن موريتانيا بالفقرة التالية: "إن السعي إلى تغيير عقلية الشعب الأصيل والعمل على الانطلاق به إلى مجتمع القرن العشرين لا يمكن أن يتم إلا إذا مدَّ له العرب ـ كل العرب ـ أيديهم لمساعدته في الوقوف على قدميه من أجل مستقبل أفضل له ولأبنائه."

وبفضل هذا الاستطلاع  حصلت موريتانيا على لقب متميز لا يقدر بثمن، ستثبت فيما بعد أنها جديرة به، وهي ما تزال تعرف به حتى اليوم، إنه لقب بلاد "المليون شاعر". يقول سليم زبال في الاستطلاع : "وسألناهم: كم عدد سكان موريتانيا؟  فأجابونا مليون شاعر". بعد هذا الجواب تحدث سليم زبال في فقرة من الاستطلاع تحت عنوان "مليون شاعر" عن زيارته لإحدى مدارس البادية، وكيف التف حوله بعض الصبية وأخذوا يسألونه عن إمرئ القيس والفرزدق وجرير وطرفة بن العبد والنابغة الذبياني!.

وفي العام الموالي أطلت مجلة العربي على قرائها العرب باستطلاعها الثاني عن موريتانيا، والذي جاء في العدد رقم  118  الصادر بتاريخ 1 سبتمبر 1968 ، وكان بعنوان : "تحت هذه الرمال ترقد شنقيط".

وفي الاستطلاع الثاني قدمت مجلة العربي لقرائها العرب شيئا من تراث شنقيط، وثروتها الثقافية المهددة بالضياع، وكشفت في ذات الوقت عن تعلق الموريتانيين بالثقافة، وقد جاء في فقرة من هذا الاستطلاع  على لسان أعضاء النادي الشبابي في مدينة أطار: "نريد أن نقرأ أكبر عدد ممكن من الصحف والمجلات العربية.. نرجوكم أن ترسلوا إلينا كل كتاب أو مجلة عربية لا تحتاجونها .. وذُهِلنا لطلبهم (يقول سليم زبال في استطلاعه الثاني عن موريتانيا).. إنهم يطلبون الثقافة قبل الكهرباء والماء والسكن اللائق."

وتشبث الموريتانيين بالقراءة يتحدث عنه حاكم وادان الشاب في نفس الاستطلاع، وذلك بعدما فوجئ فريق الاستطلاع بوجود بعض النسخ القديمة من مجلة العربي لدى الحاكم، يقول الحاكم الشاب : :إننا نحرص على شراء "العربي" التي تأتينا مع المسافرين القادمين من دكار عاصمة السنغال، والنسخة الواحدة يستعيرها كل بيت لمدة أسبوع فقط، يقرؤها كل أفراد الأسرة ثم يعيدونها ثانية، لنعيرها لأسرة أخرى وهكذا ".

وعن مدى تشبث الموريتانيين بانتمائهم العربي، ومناصرتهم للقضية الفلسطينية، وتعلقهم الشديد بالانضمام إلى الجامعة العربية، يَنْقل الاستطلاع على هامش اجتماع الفريق مع بعض رجال شنقيط أمنيتيْن مُعَبرتيْن، إحداهما لإمام الجامع أو شيخ الجامع كما جاء في الاستطلاع، والثانية لمدرس، وتتلخص أمنية الشيخ في : " تحرير فلسطين، ووحدة العرب"، أما أمنية المدرس فتتمثل في : " أن تصبح موريتانيا دولة عربية، وتدخل عضوا في الجامعة العربية".

ثم جاء في العالم الثالث ثالث استطلاع للمجلة في عددها رقم  129 الصادر بتاريخ 1 أغسطس من العام  1969 ، وكان تحت عنوان : "موريتانيا الجنوبية". وفي هذا الاستطلاع حاولت العربي أن تكشف مقدرات موريتانيا الاستثمارية، وأن تبين خطورة ترك هذه البلاد العربية ومقدراتها للأجانب، وقد أطلق الاستطلاع صفارة إنذار تتعلق بمخاطر الاستمرار في توظيف المتعلمين باللغة الفرنسية، وغياب أي مدارس عصرية تدرس باللغة العربية، وينقل الاستطلاع على لسان طلاب معهد أبي تلميت في رسالة موجهة إلى الأشقاء العرب : " نريد منحا دراسية عربية...نريد أن نتعلم لغتنا الأم على الطريقة الحديثة."

وفي فقرة أخرى من الاستطلاع، وكانت تحت عنوان : "لا تسلمونا للأجانب" جاء ذكر كلمات مؤثرة على لسان مبعوث موريتانيا في لبنان تقول :" أيها الإخوان العرب خاصة، والمسلمون عامة، أناشدكم الله.. أناشدكم بحق العروبة والإسلام، أن ألا تسلمونا للأجانب.. إننا نمد إليكم يد الأخوة رغبةَ المساهمةَ في بناء الأوطان العربية، ورجاءً أن نستمد من إخواننا في شتى نواحي بلادهم، ما ينقصنا من حضارة مادية وثقافية..".

وبعد ذلك يأتي الاستطلاع بكلمة للرئيس الراحل المختار ولد داداه رحمه الله، وقد جاءت هذه الكلمة في رسالة موجهة إلى أعضاء مجلس الجامعة العربية المجتمعين في بغداد عام 1960 قال فيها: " موريتانيا توجه الدعوة إلى جميع الدول العربية الشقيقة من أجل التعاضد والتعاون مع الجميع".

يعلق سليم زبال قائلا : "لقد أرادوا بهاتين الكلمتين أن يطلقوا صرخة مدوية، ولكن هيهات.. فلم تجد الكلمتان أي صدى لهما في الوطن العربي!؟".

 ثم يواصل سليم زبال استطلاعه الثالث عن موريتانيا، محذرا من قبل أن يختمه، مما قد يترتب على الاستمرار في عدم الاستجابة للصرخة المدوية : "إننا بتجاهلنا وإهمالنا لموريتانيا نساعد في القضاء على عروبتها، وانسلاخها عن وطنها العربي الكبير.. محققين بذلك آمال المستعمرين  ومكائد الاقتصاديين العالميين الذين يستغلون مواردها وثرواتها الطبيعية الثمينة بأبخس الأثمان."

ويختم سليم زبال استطلاعه الثالث عن موريتانيا بفقرة معنونة بسؤال يقول : "هل ستجد صدى"؟ جاء فيها تعليقٌ على كلمة مبعوث موريتانيا في لبنان، والتي نُشرت للمرة الثانية في الاستطلاع : "كان هذا منذ عشر سنوات، ولم تجد كلماته يومها صدى.. ونحن نعود اليوم فنرددها.. ترى هل ستجد أذنا صاغية ؟!؟"

هكذا توالت النداءات الموجهة من موريتانيا إلى الأشقاء العرب من خلال استطلاعات العربي، والعربي كانت في تلك الفترة هي أفضل صندوق بريد مضمون وسريع يمكن أن توجه من خلاله الرسائل إلى الأشقاء العرب،  فقد كان يطالعها الكثير من القراء العرب، وكانت نسخها الموزعة تصل إلى 250 ألف نسخة، بل إنها زادت على ذلك الرقم في إحدى سنوات الذروة.

وحتى نُدرك أهمية هذه الاستطلاعات، وأن الرسائل التي كان يبرقها الموريتانيون إلى أشقائهم العرب كانت تصل بالفعل إلى الجهات المستهدفة،  فلا بد أن نشير إلى أن القادة العرب والذين يعود إليهم القرار بقبول انضمام موريتانيا إلى الجامعة العربية كانوا هم أيضا من قراء هذه المجلة، فقد جاء في مقال للكاتب إبراهيم فرغلي تحت عنوان : "عهود العربي الأربعة " نُشر في العدد رقم 589  الصادر في شهر سبتمبر من العام 2007 ، أن عددا من رؤساء الدول العربية بعثوا رسائل تهنئة لمجلة العربي ورئيس تحريرها، و ذكر منهم : رئيس مصر جمال عبد الناصر، وملك المغرب محمد الخامس، والرئيس العراقي عبد الكريم قاسم، وحاكم البحرين الشيخ سلمان بن حمد بن خليفة، وملك ليبيا محمد إدريس السنوسي، ورئيس الحكومة المؤقتة في الجزائر فرحات عباس رحم الله الجميع.

نعم لقد لعبت مجلة العربي دورا كبيرا في التعريف بموريتانيا، بل ويمكن القول ـ  ومن دون مبالغة ـ  إنها كانت سفيرة متجولة لموريتانيا في الدول العربية ودون الحاجة إلى تأشيرة خلال الأعوام 1967 و1968 و1969 ، وأنها عَرَّفت العرب في تلك السنوات على أحدث عاصمة في أقصى منطقة من بلادهم، وعلى شنقيط المدينة التاريخية التي يُنسب إليها علماء موريتانيا الذين عرفوا في بلاد العرب بغزارة علمهم، والتي تكاد اليوم أن تبتلعها الرمال مع كنوزها الثقافية، وعرفتهم كذلك بموريتانيا ذات المقدرات الاستثمارية الهائلة، وكأنها تريد أن تقول لهم: هيا استثمروا أموالكم في موريتانيا. ورغم أهمية هذه الاستطلاعات لموريتانيا، والتركيز عليها في هذه الورقة، فلابد من الإشارة إلى أن استطلاعات العربي لم تكن خاصة بموريتانيا، بل شملت العديد من المدن في الدول العربية، وذلك من قبل أن تصل إلى موريتانيا، وسليم زبال كان قد نال في حياته تكريما من الهيئة العامة للتطوير الاقتصادي والترويج السياحي لمدينة العين الإماراتية على استطلاعه عن المدينة، والذي يعد هو أول استطلاع تقوم به أي صحيفة أو جريدة في العالم عن هذه المدينة التي لم تكن معروفة في ذلك الوقت، فالعربي كانت تريد بالفعل أن تُعرف العربي أينما ما كان بوطنه الكبير. يقول سليم زبال في العدد رقم 589 من العربي الصادر في شهر سبتمبر من العام 2007، وفي زاوية "وجها لوجه" إنه لما كان يطلب من الدكتور أحمد زكي إجراء استطلاع عن بلد غير عربي، كان يرد عليه أحمد زكي بأن يسأله: ما اسم المجلة؟ فيقول له اسمها العربي، فيرد قائلا: إذن لا استطلاع إلا في الدول العربية، ولا تفكر في الذهاب إلى بلدان أخرى، ولا الإقامة في فنادق خمس نجوم.

وحتى لا نظلم مجلة العربي، فإنه علينا أن لا نقتصر في هذا المقام على استطلاعاتها المميزة، حتى وإن كان عنوان الورقة يقتضي ذلك، فالعربي كانت لها أدوار أخرى مهمة لعل من أبرزها أنها كانت رافدا من أهم روافد صناعة الثقافة لدى العديد من الأجيال في الوطن العربي الكبير، وتبقى ميزة مجلة العربي، وهي التي تأسست من قبل استقلال الكويت، أنها استطاعت أن تصمد وأن تستمر في الصدور لأكثر من ستة عقود، وذلك في وقت اختفت فيه أغلب الصحف والجرائد والمجلات التي ظهرت من بعدها.

هناك أسباب عديدة تفسر السر وراء صمود العربي واستمرارها لأكثر من ستة عقود، منها أن العربي تأسست أصلا على احترام القارئ العربي وتقديره، وتقديم ما يفيد، ويكفي أن نعرف أن تسميتها لم تحسم في دائرة ضيقة، وإنما حسمها القراء أنفسهم من خلال مسابقة لاختيار الاسم نظمتها المجلة من قبل صدورها، ومن تلك الأسباب أيضا أنها غير ربحية، وتحظى برعاية رسمية، فالكويت أرادت بالفعل أن تقدم هدية ثقافية للعرب كُلِّ العرب، ولذلك فقد أبعدت مجلة العربي عن الخلافات السياسية الضيقة، وعن أي استغلال من أي نوع، وهذا كان من الأمور الصعبة، خاصة وأننا تعودنا من بعض الحكومات العربية استغلال الصحف والجرائد والمجلات لأغراض محلية ضيقة، ومن أسباب صمودها  كذلك أنها جمعت في تحريرها عند انطلاقها وفي مختلف فتراتها خيرة الكتاب والمثقفين العرب، فهي بالفعل مجلة يكتبها عرب ليقرأها كل العرب.

يكفي العربي نجاحا ما حققت في الماضي، ويكفيها نجاحا أنها لا تزال تصدر وبعد أن اقترب عمرها من سبعة عقود، ويكفيها نجاحا أن الحديث عنها لم يتوقف في هذا الزمن الذي لم تعد فيه قراءة الصحف والجرائد تعني أي شيء لأغلب النخب، وذلك بعد تَسيُّدِ الانترنت، وسيطرة مواقع التواصل الاجتماعي على الجميع من نخب وعوام.

يكفي العربي ما حققت من نجاح خلال العقود الستة الماضية، ويمكنها أن تعيش بنجاحها ذلك لسنوات قادمة، ولكن، وحرصا على استمرار تألق هذه المجلة، والتي يحق لكل عربي ـ أينما كان ـ أن يتحدث بشأنها، وأن يدلي برأيه حولها، وذلك لكونها مجلة لكل العرب، أقول حرصا على استمرار تألق هذه المجلة فلا بد اليوم من التفكير بجد في مستقبلها في هذا الزمن الذي يتغير بسرعة، والذي لم تعد فيه الصحف والمجلات قادرة على البقاء والصمود بشكلها التقليدي.

وحتى لا تتوقف هدية الكويت الثقافية إلى العرب، فلا بد اليوم من التفكير في إعادة صياغة هذه الهدية، ومراجعة طريقة وأسلوب تقديمها، وبما يناسب زمن هيمنة الإنترنت وطغيان مواقع التواصل الاجتماعي.

ــ

* هذه الورقة تم تقديمها يوم 21 إبريل 2024 خلال ندوة نظمتها الجمعية الموريتانية لخريجي دولة الكويت في الأكاديمية الدبلوماسية الموريتانية عن العلاقات الثقافية بين موريتانيا والكويت.


الثلاثاء، 16 أبريل 2024

أهلا بالرئيس السنغالي في موريتانيا


في خطوة لها أكثر من دلالة قرر الرئيس السنغالي بشير جوماي فاي أن يزور بلده الثاني موريتانيا، وذلك بعد أسبوعين فقط من  تنصيبه رئيسا للسنغال، وبذلك تكون هذه الزيارة هي أول زيارة له خارج السنغال من بعد تنصيبه رئيسا خامسا لها. 

هذه الخطوة تعكس إرادة قوية لدى الرئيس الجديد للسنغال في تعزيز وتقوية العلاقة بين البلدين الشقيقين موريتانيا والسنغال، وهي إرادة موجودة كذلك لدى فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، والذي حرص على أن يشارك السنغاليين أفراحَهم من خلال حضور حفل تنصيب الرئيس بشير جوماي فاي الذي نُظم في العاصمة دكار في مطلع هذا الشهر.

من الواضح جدا أن هناك إرادة قوية لدى الرئيسين الموريتاني والسنغالي في تقوية العلاقات القوية أصلا بين البلدين الشقيقين، وذلك على عكس ما حاول أن يروج له بعض "المحللين" الذين يقرؤون الأحداث، وما يجري في المنطقة، قراءة مقلوبة.

يُقال إن رفرفة أجنحة فراشة في لبرازيل قد يؤدي إلى إعصار في تكساس، وهذا يعني أن ما يجري في السنغال من أحداث لن يؤثر فقط على موريتانيا، بل أكثر من ذلك، فيمكن اعتباره شأنا موريتانيا داخليا، والعكس صحيح أيضا، فإن ما يجري في موريتانيا من أحداث لن يؤثر فقط على السنغال، بل أكثر من ذلك، فيمكن اعتباره شأنا سنغاليا داخليا. 

إن عمق الروابط، وتشابك المصالح بين البلدين والشعبين الشقيقين تجعل من مصيرهما مصيرا مشتركا، فلا أمن في السنغال عندما يغيب الأمن في موريتانيا، ولا أمن في موريتانيا عندما يغيب الأمن في السنغال (ولتأكيد ذلك فيكفي أن نذكر بما نعيشه الآن من قلق أمني في حدودنا الشرقية بسبب الأوضاع في مالي)، ولذا فمن مصلحة البلدين تقوية العلاقات بينهما بما يخدمهما أمنيا واقتصاديا ودبلوماسيا، خاصة وأنهما يوجدان في منطقة غير آمنة، تعيش الكثير من التحديات.

كُل الترحيب بالرئيس السنغالي في بلده الثاني موريتانيا، وبمناسبة هذه الزيارة التي تحمل أكثر من دلالة، فإني أدعو تعزيزا للعلاقات القوية بين البلدين، وفي إطار تفعيل الدبلوماسية الشعبية، فإني أدعو إلى :

1 ـ  تأسيس فريق برلماني للصداقة الموريتانية السنغالية؛

2 ـ  تأسيس رابطة لخريج المعاهد والجامعات السنغالية.

فليس من المناسب أن تكون في البرلمان الموريتاني فرق صداقة برلمانية مع دول شقيقة وغير شقيقة، ولا يوجد فريق برلماني للصداقة الموريتانية السنغالية. كما أنه ليس من المناسب أن تكون هناك أندية وروابط متعددة للموريتانيين الذين درسوا في معاهد وجامعات بعض الدول الشقيقة والصديقة، ولا توجد في الوقت نفسه رابطة لخريجي المعاهد والجامعات السنغالية، والتي تخرج منها عدد كبير من الطلاب الموريتانيين.

كل الترحيب بالرئيس السنغالي بشير جوماي فاي في بلده الثاني موريتانيا..

عاشت الأخوة الموريتانية السنغالية.

ــــ

تنبيه : كتبتُ اسم الرئيس السنغالي بالطريقة التي تكتبه بها الصفحات السنغالية التي تنشر باللغة العربية، وأستغرب من كون المواقع في موريتانيا تكتب "بصيرو" بدلا من "بشير".

الأحد، 14 أبريل 2024

فتوى حول تبرعات القبائل لأهلنا في غزة


مرة أخرى أجدني مضطرا للاستعانة بقصة تروى عن الإمام أبي حنيفة وتلميذه المتميز أبي يوسف، ومرة أخرى أجدني ملزما أن أنبه في بداية هذا المقال إلى أن الفتوى التي سأقدمها هنا ليست فتوى دينية، فلذلك النوع من الفتاوى أهله ورجالاته، ونحن لدينا الكثير من العلماء الذين يحق لهم ـ دون غيرهم ـ أن يقدموا فتاوى شرعية في مثل هذه القضايا الشائكة.

إن الحديث هنا هو مجرد حديث إعلامي وسياسي، لا أكثر ولا أقل، ولا علاقة له إطلاقا بالجانب الشرعي، حتى وإن من مُهد لها بقصة من تراثنا الفقهي.

قصة من تراثنا الفقهي

تقول القصة إن أبا يوسف القاضي وهو من أذكى تلاميذ الإمام أبي حنيفة أصيب بمرض شديد ألزمه الفراش، فزاره أبو حنيفة رفقة بعض تلاميذه، وفي طريق العودة قال الإمام لتلاميذه إن أبا يوسف سيكون له شأن عظيم إن قدِّر له أن ينجو من المرض الخطير الذي ألم به، وقال لهم إني كنتُ أرجوه للناس من بعدي.

شُفي أبو يوسف من مرضه، وأخبره بعض أصدقائه بما قاله عنه الإمام، فما كان منه إلا أن قرر أن يفتتح حلقة خاصة به. فوجئ أبو حنيفة بالحلقة الجديدة في المسجد، ولما سأل تلاميذه عنها وعن شيخها، أخبروه أن أبا يوسف قد شفي من مرضه، وأنه قرر أن يفتتح حلقة خاصة به.

ولكي ينبه الإمام تلميذه الذكي على أنه قد استعجل الأمر، وأن وقت التدريس لم يحن بعد، أبرق إليه بسؤال لغز مع أحد التلاميذ جاء فيه أن رجلا أعطى قماشا لخياط ليخيط له ثوبا، ولكن الخياط أنكر وجود القماش، وبعد تفتيش وتهديد اعترف الخياط بوجود الثوب، وكان السؤال هو : هل يعطي صاحب القماش للخياط أجرة خياطة الثوب أم لا؟

ولقد أوصى الإمام تلميذه أن يقول لأبي يوسف أنه قد أخطأ مهما كانت إجابته، فإن قال إن الخياط يستحق أجرا قال له التلميذ الرسول: ومن أين أبحت لخياط سارق الأجرة؟ وإن قال إن الخياط لا يستحق أجرا، قال له التلميذ الرسول: ومن أعطاك الحق في أن تحرم خياطا من أجر معلوم، كان قد حُدد له سلفا إن هو أكمل خياطة الثوب؟

نفذ التلميذ وصية الإمام، وعلم أبو يوسف أن الإمام قد أراد أن ينبهه على أن وقت التدريس لم يحن بعد، فلم يكن منه إلا أن ترك حلقته، وذهب إلى الإمام وطلب منه ـ وهو جاثيا على ركبتيه ـ  أن يفتيه حول أجرة الخياط، وأن يجيبه على السؤال اللغز.

وما علاقة هذا بتبرع القبائل لأهلنا في غزة؟

لا بأس باستخدام نفس الأسلوب في القصة في مسألة تبرعات القبائل لأهلنا في غزة،  فإن قال لكم قائلٌ ـ وما أكثر من يقول بذلك ـ  إن تنافس القبائل في جمع التبرعات لأهلنا في غزة هو عمل لا يجوز وفق منطق وقوانين الدولة الحديثة، وأن هذا النوع من الأنشطة يجب أن يترك بشكل كامل للدولة ولهيئات المجتمع المدني، من أحزاب سياسية، ونقابات، ومنظمات مجتمع مدني.. ويتأكد الأمر بالنسبة لبلد مثل بلدنا ما تزال فيه القبائل تُنافس الدولة، وتنتزع منها الكثير من صلاحياتها. فإن قال لكم قائل بذلك  ـ وما أكثر من يقول به ـ  فقولوا له يا هذا : كيف تريدنا أن نبقى مكتوفي الأيادي دون فعل أي شيء، حتى ولو كان مجرد تبرع بقليل من المال، ونحن نشاهد لحظة بلحظة تفاصيل أبشع وأفظع وأشنع جريمة إبادة ترتكب في عصرنا الحديث ضد إخوة لنا في الدين والدم والإنسانية، ويحدث ذلك في ظل تخاذل عربي وإسلامي وعالمي غير مسبوق.

 يا هذا كيف تريدنا أن نواصل تفرجنا على أبشع جريمة إبادة ضد إخوة لنا، دون أن نتبرع بقليل من المال كتعبير عن أضعف أشكال التضامن والمواساة؟ ألم يكن أولى بكَ أن تتبرع لأخوتك بدلا من شن الهجوم علينا، فأنت بفعلك القبيح هذا، تكون ممن لا يعين الضحايا، ولا يترك الآخرين يعينوهم، إنك بالفعل ممن يمنعون الماعون؟

وإن قال لكم قائل ـ وما أكثر من يقول بذلك ـ إن ما نشاهده اليوم من تنافس بين القبائل في جمع التبرعات لأهلنا في غزة  هو تنافس شريف ونبيل، يستحق منا جميعا أن نشجعه وأن نثمنه حتى يتواصل، وحتى تجمع قبائلنا أكثر ما يمكن أن تجمع من مال، وهي مهما جمعت من مال، فإن ذلك سيبقى أقل مما كان يجب أن نتبرع به إلى أهلنا في غزة.

فإن قال لكم قائل بذلك ـ وما أكثر من يقول به ـ فقولوا له يا هذا كيف تشجع تنافسا قبليا في العام 2024، حتى وإن تلبس ذلك التنافس بلبوس شريف ونبيل؟ ألا يشكل هذا التنافس المحموم تحديا ـ إن لم أقل تهديدا ـ لكيان الدولة وهيبتها؟ ألن يزيد القبائل تغولا في المستقبل؟ ألم يُصْدر وزير الداخلية واللامركزية في يوم الاثنين الموافق 24 يناير 2020 تعميما إلى الولاة بمنع التراخيص لأي نشاط قبلي على أراضي الجمهورية الإسلامية الموريتانية؟ ألا تشكل الأنشطة القبلية التي نشاهدها اليوم، والتي يحضرها ويشارك فيها مسؤولون كبار في الدولة انتهاكا صريحا لذلك التعميم؟ ألا يزيد من خطورة ذلك الانتهاك أن التبرعات تسلم لجهة خارجية، حتى وإن كانت أكثر من شقيقة، مما يعطي لأنشطة القبيلة ـ ولأول مرة ـ  بعدا خارجيا، وذلك بعد أن كانت أنشطتها منحصرة على الداخل الموريتاني؟

عن تناقضات بعض المهتمين بالشأن العام

عودنا الكثيرون من المهتمين بالشأن العام في هذه البلاد أن يناقشوا ما يطفوا على السطح من ظواهر دون الغوص في عمقه، وعودونا كذلك أن يناقشوا تلك الظواهر ويتخذون منها مواقف بعيدة كل البعد من الموضوعية، وتتأثر بشكل كبير بأمزجتهم الشخصية، ولذا فليس من الغريب أن تُصادف أحدهم يجمع بين  نقد القبائل لجمعها للتبرعات لأهلنا في غزة، ودعوتها في نفس الوقت لجمع التبرعات لصالح بعض فئات مجتمعنا الهشة !!

إن ذلك يعني أن جمع القبيلة للتبرعات لغزة مرفوض ويهدد كيان الدولة، وجمعها للتبرعات للفئات الهشة في البلد مطلوب ويستحق التثمين، وفي هذا تناقض واضح، فإما أن نكون مع حضور القبيلة في المجال العام في كل الأحوال، أو ضده في كل الأحوال.

بل أكثر من ذلك، فإن بعض الذين ينتقدون جمع القبائل للتبرعات لأهلنا في غزة، كانوا من قبل انخراط القبائل في جمع التبرعات ينتقدون هيئات مدنية ( الرباط الوطني لنصرة الشعب الفلسطيني والمنتدى الإسلامي الموريتاني) لقيامهما بذلك الدور، وكانوا ـ وما زالوا ـ يشككون في وصول تلك التبرعات إلى من جُمعت له، ومن بين هؤلاء من لا يكتفي فقط بالتهجم والتشكيك في تلك الهيئات، بل يعلن صراحة أنه أصلا ضد جمع التبرعات لأهلنا في غزة، وسواء جُمعت من طرف قبيلة أو هيئة مدنية، وحتى وإن سُلمت علنا لسفير فلسطين أو لممثل حماس في نواكشوط.

بالنسبة لبعض هؤلاء فإن المسألة لا تتعلق فقط بما تجمعه القبائل من تبرعات، بل تتعلق أصلا برفض جمع التبرعات لأهلنا في غزة، مهما كانت الأساليب والوسائل المتبعة في ذلك، ولأن بعض هؤلاء لا يتجرأ على انتقاد جمع التبرعات بشكل مباشر، فأصبح يتعلل في نقده بدخول القبائل على الخط، وكان قبل ذلك يبرر نقده بأن من يجمع تلك التبرعات هيئات محسوبة على تيار سياسي، قد تستخدم ذلك لتحقيق مآرب سياسية ضيقة،  ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه هنا : لماذا لا يدعو أولئك التيارات السياسية والأيدولوجيات الأخرى إلى تأسيس هيئات مدنية خاصة بها لجمع التبرعات لأهلنا في غزة؟

وفي المقابل، واتباعا لأسلوب ما جاء في قصة الإمام وتلميذه، فإنه يمكن القول أيضا إن بعض المؤيدين لتنافس القبائل في جمع التبرعات لأهلنا في غزة عهدناهم، وإلى وقت قريب، ينتقدون كل ظهور للقبيلة في أي نشاط مهما كانت طبيعته، فعلى هؤلاء نطرح السؤال : فبأي منطق كنتم تنتقدون  في الأمس القريب ـ وبشدة ـ تدخل القبائل في المجال العام، واليوم ها أنتم تشجعون تلك القبائل على تدخلاتها في مجالات عامة أخرى، وهي في هذه المرة قد تزيد خطورة لكونها ذات بعدٍ خارجي؟

إن غابت الدولة وهيئات المجتمع المدني فستظهر القبيلة

من المعلوم بداهة أنه كلما غابت الدولة وهيئات المجتمع المدني، فإن القبيلة ستظهر، وكلما زاد غياب الدولة وهيئات المجتمع المدني زاد حجم ظهور القبيلة...هذه حقيقة واضحة وبينة، ولذا فلا يمكن أن نحدَّ من ظهور القبيلة في المجال العام، إلا إذا عملنا على خلق هيئات حزبية ومدنية قوية، وهو ما لم يحدث حتى الآن، وذلك على الرغم من مرور أكثر من ستة عقود على ميلاد الدولة الموريتانية.

لم تتأسس حتى الآن، هيئات مدنية ذات مصداقية كبيرة، قادرة على أن تجمع عُشر ما تجمعه كل قبيلة من تبرعات لصالح أهلنا في غزة، وما تزال النقابات والجمعيات عاجزة عن القيام بدور القبيلة في هذا المجال، فعلى مستوى الاتحاد الوطني لأرباب العمل الموريتانيين مثلا، وهو الاتحاد الذي كان يجب أن يجمع تحت اسمه أكبر تبرع لصالح أهلنا في غزة، فسنجد أن منتسبيه أكثر تحمسا للتبرع باسم قبائلهم، بدلا من التبرع باسم اتحادهم، بل أكثر من ذلك، فإن بعض كبار رجال أعمالنا قد سارع للتبرع لضحايا فيضان أو إعصار كاترينا، ولم يتبرع حتى الآن لضحايا الإبادة التي يرتكبها العدو ضد أهلنا في فلسطين، وذلك مع العلم أن عدد ضحايا الإعصار لم يصل إلى 2000 قتيل، في حين أن ضحايا الإبادة تجاوزوا حاجز المائة ألف ما بين شهيد ومصاب، خلال الأشهر الستة الماضية.

إن المجتمع المدني في بلادنا ما زال هشا، ولذا فستبقى القبيلة حاضرة وبقوة، ويمكنني أن أجزم، وبصفتي ناشطا في المجتمع المدني، أني لو قررتُ اليوم أن أطلق حملة لجمع التبرعات لأهلنا في غزة باسم  منظمة مجتمع مدني، ولتكن حملة "معا للحد من حوادث السير"، والتي تنشط منذ سنوات في مجال السلامة الطرقية، فإني لن أتمكن من جمع مائة ألف أوقية قديمة، وبالمناسبة فإن هذه الحملة التي تنشط منذ سنوات في مجال التوعية ضد حوادث السير ما تزال عاجزة حتى اليوم عن امتلاك مقر متواضع في حي شعبي. وفي المقابل، فإني عندما استنفر القبيلة وأقرر أن أجمع التبرعات باسمها، فإن الحصيلة ستكون كبيرة جدا.

ويبقى السؤال : ما الحل؟

لا يمكن أن نحدَّ من حضور القبيلة في المجال العام إلا إذا تضافرت جهود الجميع، وأن يكون ذلك من خلال:

1 ـ تفعيل التعميم الصادر بمنع التراخيص للتجمعات القلبية، واتخاذ الحكومة قرارات صارمة تمنع مشاركة الموظفين في الاجتماعات القبلية ذات الصبغة السياسية، وتعاقب كل من يحضر من الموظفين لتلك الاجتماعات؛

2 ـ اتخاذ قرارات صارمة من طرف حزب الإنصاف وبقية الأحزاب السياسية بمقاطعة المبادرات القبلية، ومنع قيادات الأحزاب من الظهور في أي مبادرة قبلية ذات صبغة سياسية؛

3 ـ توقف النخب عن إقحام القبيلة في المجال العام لأغراض نفعية خاصة، فأنت قد تجد السياسي المعارض يستنفر قبيلته في الحملات الانتخابية، أما السياسي الموالي فحدث ولا حرج.

على المستوى الشخصي، فقد طلبتُ من المترشحين للنيابيات في دائرة نواكشوط الشمالية في الانتخابات الماضية أن نوقع ميثاقا شرفيا من خمسة بنود يتضمن من بين أمور أخرى، مقاطعة الاجتماعات والمهرجانات التي يكون فيها الحضور على أساس قبلي، والتركيز في الحملة على البرامج، والأفكار، والحوارات، والمناظرات التي من شأنها أن تثقف الناخب، وترسخ الممارسة الديمقراطية في البلد. لم أجد من المنافسين من يقبل بتوقيع هذا الميثاق، ولم أجد لهم برامج انتخابية مكتوبة، وقد التزمتُ على المستوى الشخصي بتنفيذ بنود هذا الميثاق، حتى ولو لم يوقعه معي أي منافس، والنتيجة كانت معروفة، فقد خرجتُ من المنافسة مبكرا، متسببا ـ حسب البعض ـ في فضيحة كبيرة للقبيلة، والتي كان عليَّ حسب أولئك أن استنفرها قبل الانتخابات حتى تجلب من الأموال والأصوات ما يجنبها الفضيحة التي أوقعتها فيها!!

4 ـ أن تعمل الدولة على دعم الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني الجادة، والتي يمكنها أن تشكل بديلا للقبيلة، فبدون مجتمع مدني قوي ـ وكما قلتُ سابقا ـ فإن حضور القبيلة سيظل في تنامٍ واتساع، وبما يهدد كيان الدولة.

والآن، فلنعد إلى سؤال أبي حنيفة

إن الجواب الصحيح على السؤال اللغز هو أن صاحب الثوب يعطي الأجرة للخياط، إن كان الخياط قد فصَّل الثوب على مقاس صاحب الثوب، مما يعني أنه لم يفكر في سرقة الثوب إلا بعد أن أكمل خياطته. أما إذا كان الثوب قد فُصَل على مقاس الخياط فلا أجرة للخياط الذي كان قد نوى سرقة الثوب من قبل البدء في خياطته.

إنه لا يمكننا أن نقف ضد جمع القبائل للتبرعات لأهلنا في غزة، وذلك في ظل غياب أي جهة أخرى قادرة على جمع تلك التبرعات، وبنفس المبالغ. وفي المقابل، فإنه لا يمكننا إلا أن نشعر بالمزيد من القلق، ونحن نشاهد تنامي حضور القبائل، وتوسع مجالات تدخلها في ملفات كان يجب أن تبقى حكرا للدولة وللمجتمع المدني.  

حفظ الله موريتانيا..


الأربعاء، 27 مارس 2024

رسائل الشباب العربي والإفريقي


إن القارئ الفطن للواقع العربي والإفريقي خلال العقد الأخير لابد له وأن يقرأ رسائل صريحة جدا، وفصيحة جدا، ومختصرة جدا أبرقها الشباب العربي والإفريقي إلى أنظمته الحاكمة، أبرقها عبر البريد المضمون، وبثلاث صيغ مختلفة، وعبر ثلاثة أجهزة إرسال مختلفة.

الصيغة الأولى : تحريك الشارع وإشعال الثورات لإسقاط الأنظمة

ويبقى المثال الأبرز لهذه الصيغة من الرسائل هي تلك الرسائل التي جاءت من تونس ومصر وليبيا خلال موجة الربيع العربي، والتي أصابت عدواها العديد من الدول العربية.

لقد استطاع الشباب في تلك الدول، ومن خلال ثورات فاجأت العالم وبهرته أن يسقط عددا من الأنظمة العربية الدكتاتورية، والتي حكمت بلدانها لعقود.

نجح الشباب هناك في إسقاط أنظمة دكتاتورية كانت ظاهريا في منتهى القوة، ولكنه فشل فشلا ذريعا في تقديم البديل، بسبب نقص الخبرة والتجربة، ونظرا لغياب مشاريع ومؤسسات سياسية قوية في تلك البلدان، هذا فضلا عن ما شهدته المنطقة من ثورات مضادة، ومن مؤامرات خارجية، فكانت المحصلة النهائية خراب تلك الدول، ووصول حكام ليسوا بأفضل من الحكام الذين ثارت عليهم الشعوب، هذا إن لم يكونوا أسوأ منهم.

الصيغة الثانية : تحريك الدبابات وإسقاط الأنظمة بالانقلابات

ويبقى المثال الأبرز لهذه الصيغة بعض الانقلابات التي قادها عسكريون شباب، ويمكن هنا أن نقدم مثالين من انقلابي مالي وبوركينافاسو.

هذه الصيغة، وهذان المثالان بالذات، ليس بالإمكان أن نحكم عليهما الآن، فهما لم يحققا نجاحا بعد الانقلابين حتى نحكم بنجاحهما، وهما في المقابل لم يقعا في فشل ذريع أخطر مما كان عليه الحال في عهد النظامين المنقلب عليهما، حتى نحكم بفشلهما.

بكلمة واحدة لا يمكننا أن نحكم الآن على العسكريين الشباب الذين وصلوا إلى الحكم في مالي وبوركينافاسو بالنجاح أو بالفشل، وذلك لأنه لا مؤشرات إيجابية أو سلبية حتى الآن تمكننا من المجازفة بإطلاق أحكام نهائية.

الصيغة الثالثة : إسقاط الأنظمة عن طريق صناديق الاقتراع

وتبقى هذه الصيغة هي الصيغة الأكثر ديمقراطية، والأكثر شرعية، والأكثر أمانا، ويبقى السنغال هو المثال الأبرز على هذه الصيغة، والتي قد تصيب عدواها بلدانا أخرى إن هي نجحت.

في يوم 14 مارس 2024 كان بشيرو جوماي فاي يقبع في السجن، وبعد ذلك بعشرة أيام فقط، وتحديدا في يوم 24 مارس 2024  (يوما واحدا قبل ذكرى ميلاده 44) أوصلته صناديق الاقتراع إلى الرئاسة في سابقة من نوعها، وذلك بعد أن حسم الفوز في الشوط الأول من الانتخابات. هذه هي أول مرة يحسم فيها مرشح للمعارضة الفوز في الشوط الأول في السنغال، ويزداد الأمر إثارة عندما يكون هذا المرشح شابا، ومجرد مرشح احتياطي، لم يكن هو المرشح الأصلي لحزبه.

لا يمكن الحكم الآن على الرئيس السنغالي الجديد، فهو لم يستلم الحكم، ولم يُختبر ولو لفترة قصيرة، ومع ذلك فيمكن القول إن هذا الرئيس الشاب سيواجه عدة تحديات، ولن يكون بالإمكان الحكم عليه من قبل معرفة تعامله مع تلك التحديات، والتي يمكن أن نذكر منها :

التحدي الأول : يتعلق بطبيعة إدارته مستقبلا للعلاقة  مع عثمان سونغو الذي رشحه للرئاسة، فالقيادة لا تقبل برأسين، وعثمان سونغو كان هو قائد مشروع التغيير، وبشيرو أصبح اليوم هو القائد الفعلي لهذا التغيير بعد انتخابه رئيسا، وإدارة العلاقة بين قائدين ستكون صعبة جدا، ومهما كانت درجة الانسجام بينهما؛

التحدي الثاني: يتعلق بنقص في التجربة والخبرة، فالرئيس الجديد لا يمتلك من الخبرات والتجارب في إدارة شؤون البلاد إلا خبرة متواضعة في إدارة الضرائب؛

التحدي الثالث : يتعلق بحجم الآمال الكبيرة والوعود السخية التي عليه الوفاء بها للشباب السنغالي، والذي يرجع له الفضل في إيصاله إلى الرئاسة؛

التحدي الرابع :  يتعلق بما يمكن أن تقوم به الدولة العميقة من مؤامرات، وبما يمكن أن تحيكه فرنسا من مكائد، وفرنسا لاشك أنها مصدومة بوصول شاب ملتح، متعدد الزوجات، ذي خلفيته إسلامية، ويعد في برنامجه الانتخابي بالخروج من عباءة المستعمر، وبمراجعة بعض الاتفاقيات، وبصك عملة جديدة. لن تقبل فرنسا أن تخسر حليفها الأهم في إفريقيا بسهولة.

نأمل أن يتجاوز الرئيس السنغالي المنتخب هذه التحديات، ومع ذلك لا يمكننا أن نخفي في هذا المقام ما يساورنا من قلق له يبرره حول نجاح هذه التجربة، والتي إن نجحت فستكون ملهمة للشباب الإفريقي في العديد من الدول الافريقية.

وبالعودة إلى رسائل الشباب العربي والإفريقي خلال العقد الأخير، فيمكن القول ـ وبكل اطمئنان ـ إن هذا الشباب لم يعد يقبل باستمرار النهج السائد من الحكم في البلدان العربية والأفريقية، ورفضه لهذا النهج يمكن أن يأخذ عدة صيغ، فهو يمكن أن يأتي على شكل ثورات كما حدث في بعض البلدان العربية، ويمكن أن يأتي من خلال انقلابات يقودها عسكريون شباب، كما حدث في بعض البلدان الإفريقية، ويمكن أن يأتي من خلال صناديق الاقتراع كما حدث مؤخرا في السنغال.

وبالمجمل، يُمكنُ القول إن الشباب في هذه المنطقة من العالم أصبح أكثر قدرة على إسقاط الأنظمة الحاكمة، إما بالثورات أو الانقلابات أو الانتخابات، ولكنه ـ في المقابل ـ  لم يثبت حتى الآن أنه قادر على إدارة شؤون بلدانه بنجاح بعد إسقاط الأنظمة الحاكمة، بل على العكس من ذلك فالتجارب الشبابية المتاحة حتى الآن، هي أقرب للفشل منها إلى النجاح.

إننا أمام دول عربية وإفريقية شابة، يشكل الشباب أغلبية السكان فيها، ولذا فمن حق الشباب أن يحكم، وهنا تطرح الخبرة مشكلة، أو أن يحكم من لديه خبرة ويتبنى بشكل كامل مطالب وتطلعات الشباب، والخبرة تحتاج في كثير من الأحيان أن يتجاوز صاحبها مرحلة الشباب.

وبذلك فيكون النموذج الأفضل للحكم في هذه البلدان هو أن يتولى الحكم فيها من يمتلك الخبرة، أي من تجاوز مرحلة الشباب، ولكن مع شرط أساسي وضروري وهو أن يتبنى كل مطالب الشباب وتطلعاتهم المشروعة. 

وماذا عن موريتانيا؟

هذا سؤال قد يطرحه الكثيرون، وهو سؤال يمكن أن نجيب عليه من خلال ثلاث نقاط:

1 ـ ليس من المتوقع أن تشهد موريتانيا مفاجأة انتخابية في الرئاسيات القادمة، وسيكون الفوز في هذه الانتخابات للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وبنسبة مريحة جدا.  لم يظهر أي مرشح معارض قادر على أن يحدث مفاجأة في الانتخابات القادمة، والمعارضة قد خسرت تلقائيا انتخابات 2024 في العام 2019، ففي العام 2019 قدمنا في "منصة رئاسيات 2019" تصورا متكاملا للتحضير الجيد لانتخابات 2024، ولكنه لم يجد من يتبناه، وهذا التصور صالح للاستخدام الآن، وعموما فإن أقصى ما يمكن أن تفعله المعارضة في انتخابات 2024، هو أن تحضر بشكل جيد لانتخابات 2029 من أجل كسبها؛

2 ـ ليس من المتوقع أن تشهد البلاد انقلابا عسكريا، ويكفي أن نذكر بأن الرئيس الحالي قادم من رحم المؤسسة العسكرية، وهو قادر على تحصين البلاد من أي انقلاب عسكري في المستقبل المنظور؛

3 ـ ليس من المتوقع أن نشهد بلادنا في المستقبل المنظور ثورة شعبية، فحتى الآن لم تتهيأ الأرضية لثورة شعبية، ومع ذلك فلابد من التذكير بأن الثورات الشعبية لا يخطط لها، ولا يمكن التنبؤ بمواعيد تفجرها، وهي لا تأتي إلا بغتة نتيجة لشرارة ما.

لا خوف على البلاد من ثورة شعبية في المستقبل المنظور، ومع ذلك فإن هناك بعض نقاط الخلل التي يجب الانتباه إليها:

النقطة الأولى : ضعف المعارضة، وضعف الأحزاب الموجودة حاليا، وكلما ضعفت المعارضة وأحزابها، فإن ذلك سيعني أنه لم تعد هناك أي جهة سياسية قادرة على ترشيد غضب الشارع وتأمين تفجيره، وعندما تغيب أي جهة قادرة على ترشيد غضب الشارع وتأمينه، يصبح ذلك الغضب خارج السيطرة، وقابل للتفجر بشكل عنيف في أي وقت، وحتى من دون مقدمات وأسباب محددة.

النقطة الثانية : تنامي تأثير مواقع التواصل الاجتماعي عاما بعد عام، وتراجع حضور المدافعين عن النظام في هذه المواقع، مع تزايد حضور معارضيه، وذلك في وقت يلاحظ فيه غياب تام لأي خطة واضحة لدى النظام لمواجهة هذا الاختلال البين في الإعلام الجديد، والذي أصبح هو الأكثر تأثيرا في توجيه الرأي العام والتأثير عليه؛

النقطة الثالثة : وجود بلادنا في منطقة غير آمنة، ومفتوحة على كل التوقعات والاحتمالات.

إن غياب وجود هيئات سياسية معارضة ذات مصداقية قادرة على توجيه وترشيد غضب الشارع، وذلك في ظل تزايد تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، كل ذلك من شأنه أن يحول أحداثا يمكن أن تقع في كل حين إلى أحداث عنيفة تهدد استقرار البلد وأمنه، وقد كانت هناك بالفعل محاولات في ذلك الاتجاه، ولعل أبرز مثال عليها ما شهدته بلادنا من مظاهرات واحتجاجات عنيفة بعد حاثة قتل الصوفي ولد الشين، وحادثة وفاة عمر جوب، وأحداث أركيز.

كيف نحصن بلادنا ونحميها من الاحتجاجات العنيفة في الفترة القادمة؟

في اعتقادي الشخصي أن ذلك يمكن أن يتم بتبني فخامة رئيس الجمهورية لمطالب الشباب الموريتاني في مأموريته الثانية، ويمكن لهذا التبني أن يتخذ عدة أشكال لعل من أبرزها :

1 ـ إعلان حرب شرسة لا رجعة فيها ضد الفساد والمفسدين؛

2 ـ البحث عن الكفاءات بشكل عام، وفي صفوف الشباب بشكل خاص، وتعيينها، وذلك على أساس أنه لا يمكن إحداث إصلاح دون مصلحين؛

3 ـ تجديد الواجهة السياسية والإدارية للنظام وضخ دماء جديدة فيها، وإبعاد كل من تآكلت مصداقيته عن واجهة النظام؛

4 ـ تخفيض أسعار المحروقات كلما أمكن ذلك، ومراقبة ملف الأسعار بشكل صارم؛

5 ـ العمل على عصرنة الإدارة وتقريب خدماتها من المواطن بشكل حقيقي ودائم، وأول شرط في تقريب خدمات الإدارة من المواطن يتمثل في مخاطبته بلغته الرسمية التي يفهمها أو يفترض فيه أنه يفهمها.

6 ـ الاستمرار في الاهتمام بالفئات الهشة، ورغم ما تحقق من إنجازات كبيرة في هذا الملف خلال المأمورية الأولى، إلا أن الاستمرار فيه خلال المأمورية الثانية يبقى من أولوية الأولويات.

لم أتحدث في هذه النقاط عن التعليم والصحة والتشغيل وقضايا أخرى معروفة، وذلك ليس تقليلا من شأنها، وإنما توخيا للاختصار، وذلك بعد أن تجاوز المقال المساحة المخصصة له.

حفظ الله موريتانيا..

محمد الأمين الفاضل

Elvadel@gmail.com

 

الثلاثاء، 19 مارس 2024

ما أصعب أن تُقاوم على جبهتين!


منذ فترة ليست بالقصيرة، وأنا تترسخ لدي يوما بعد يوم قناعة مفادها أن هناك ضرورة ملحة للخروج من نمط التفكير السياسي التقليدي الذي اتبعته الأغلبيات التقليدية والمعارضات التقليدية خلال العقود الماضية، وهذا النمط من التفكير قائم بالنسبة للأغلبيات التقليدية على التثمين المطلق الذي يحاول أن يُسوق للمواطن أن البلد يعيش نهضة غير مسبوقة، وأن النظام قد أنجز كل شيء،  وقائم عند المعارضة التقليدية على النقد المطلق، والذي يُحاول أن يُسوق للمواطن أن البلد يعيش أسوأ أيامه، وأن النظام قد أخفق في كل شيء.

لو كان الخطاب السياسي القائم على التثمين المطلق يمكن أن يؤدي إلى إصلاح حقيقي لكانت بلادنا تعيش اليوم في نعيم ورخاء، فالأغلبيات السياسية المتعاقبة أو المتحورة لم تقصر منذ بداية التسعينيات وحتى اليوم في التثمين المطلق لما أنجزته الأنظمة المتعاقبة، ولما لم تنجزه تلك الأنظمة.

ولو كان الخطاب السياسي القائم على النقد المطلق يمكن أن يؤدي إلى تغيير حقيقي لتغير الحال في بلادنا من حال إلى حال، فالمعارضات السياسية المتعاقبة أو المتوارثة لم تقصر منذ بداية التسعينيات وحتى اليوم في جلد الأنظمة ونقدها بأقسى العبارات.

إننا اليوم في أمس الحاجة إلى نمط جديد من التفكير السياسي خارج صندوقي الأغلبية التقليدية والمعارضة التقليدية، ونحن بحاجة كذلك إلى خطاب سياسي جديد لا يقتصر فقط على التثمين المطلق أو النقد المطلق. علينا أن نعلم أنه من الغباء أن نُعيد نفس الخطاب السياسي في تسعينيات القرن الماضي، سواء كنا موالين أو معارضين، أن نعيده دون أي تعديل بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود، وأن نتوقع في الوقت نفسه نتائج مختلفة في زمن تغير كثيرا ولم يعد مثل تسعينيات القرن الماضي، ويكفيه من التغير أنه قد ظهرت فيه وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أصبح روادها ينافسون وبقوة الأحزاب السياسية والإعلام التقليدي في صناعة الرأي العام، وفي التأثير على قناعات المواطنين.

في الفترة الأخيرة تابعنا محاولات ما زالت في بدايتها للخروج من عباءة المعارضة التقليدية والموالاة التقليدية، وكان ذلك من خلال ظهور تيارين سياسيين في وقت شبه متزامن، أحدهما يحسب على المعارضة وهو تيار "الأغلبية الصامتة"، والثاني يحسب على داعمي فخامة رئيس الجمهورية وهو تيار "من أجل الوطن". 

 في هذا المقال سأتوقف فقط مع "تيار من أجل الوطن"، وذلك بصفته هو التيار الأقرب لي، خاصة وأن من بين مؤسسيه أصدقاء جمعتني معهم مبادرات تبنت خطابا سياسيا داعما يجمع بين التثمين والنقد (حراك 3 ن)، ولولا الانشغال بالعمل الجمعوي ومحاولة التفرغ له في الفترة القادمة لكنتُ من بين مؤسسي هذا التيار، والذي أتوقع منه ـ وفي تشكيلته الحالية ـ أن يكون قادرا على تسويق المنجز، وشجاعا في كشف الخلل، وأهلا لتقديم المقترحات والمبادرات الإصلاحية، وأن يكون بالإضافة إلى كل ذلك قادرا على أن يُقاوم وببسالة على جبهتين اثنتين لفرض وجوده في المشهد السياسي خلال السنوات القادمة.

الجبهة الأولى : جبهة الأغلبية

من الطبيعي جدا أن تنزعج الأغلبية التقليدية من ظهور تيار سياسي جديد يرفع شعار دعم فخامة رئيس الجمهورية، ويستخدم أساليب جديدة في الدعم، فالأغلبية التقليدية ستعتبر هذا التيار منافسا لها، وربما تصنفه ـ وبشكل غير معلن ـ على أنه خصم سياسي يأتي من حيث مستوى الخطورة قبل المعارضة التقليدية.

على المستوى الشخصي، وبصفتي داعما لفخامة رئيس الجمهورية من خارج أغلبيته التقليدية، فقد تلقيتُ ضربات قوية من بعض أطراف هذه الأغلبية، ولكني لم أذكرها ولن أذكرها في الوقت الحالي لأني ضد كل ما من شأنه أن يتسبب في ظهور شقاق أو خلاف في الأغلبية الداعمة لفخامة الرئيس، ومن الراجح أن تيار من أجل الوطن تلقى وسيتلقى مستقبلا طعنات أقوى من الأغلبية التقليدية للرئيس، والتي ستعتبره منافسا حقيقيا لها.

إن تيار من أجل الوطن بحاجة إلى أن يبذل جهدا كبيرا لإقناع الأغلبية التقليدية أنه ليس خصما لها، وإنما هو مكمل لها، وأنه سيتحرك في مساحات لم تعد الأغلبية التقليدية قادرة على التحرك فيها بشكل جيد، وأن خطابه السياسي ليس خطابا ناقدا للأغلبية التقليدية، وإنما هو خطاب مكمل لخطابها، وموجه بالأساس إلى جمهور واسع من الداعمين الذين لم يعودوا يقبلون بالخطاب التقليدي للأغلبية التقليدية، القائم على التثمين فقط دون أي ذكر للاختلالات و النواقص، وهي اختلالات ونواقص موجودة، وستبقى موجودة مهما كان مستوى الأداء الحكومي.

إن السعي للإقناع بأهمية التكامل في لعب الأدوار داخل الأغلبية الداعمة لفخامة الرئيس بدلا من الصراع بينها، هو ما جعلني أختار للعنوان كلمة "تُقاوم" بدلا من كلمة "تُحارب" حتى وإن كانت هذه الأخيرة هي الأنسب إعلاميا لتكون في عنوان المقال.

إن المطلوب من تيار من أجل الوطن هو أن يُقاوم داخل الأغلبية لإثبات وجوده أولا، وثانيا لطمأنة الأغلبية التقليدية على أنه مكملا لها وليس خصما لها.

الجبهة الثانية : جبهة المعارضة 

تعرض وسيتعرض تيار من أجل الوطن لهجوم قوي من مدوني المعارضة، وربما يكون الهجوم عليه من المعارضة أقوى من الهجوم على حزب الإنصاف، وذلك لشعور بعض المعارضين أن هذا التيار وغيره من الداعمين غير التقليديين سينافس المعارضة في كسب ود المواطن، وذلك من خلال حديثه عن بعض المشاكل التي يعاني منها المواطن، والتي نادرا ما تتحدث عنها الأغلبية التقليدية.

ثم إن محاولة الوقوف في منطقة سياسية بين خصمين تقليديين ( الأغلبية التقليدية والمعارضة التقليدية)، وبغض النظر عن بعد التيار أو قربه من هذا الطرف أو ذاك، ستعرض التيار إلى مواجهة نارين، إحداهما تأتي من الأغلبية التقليدية، وذلك لشعورها بأن هناك داعما جديدا ينافسها على كسب ثقة رئيس الجمهورية، والثانية ستأتي من المعارضة لشعورها أن هناك من ينافسها في كسب ثقة المواطن، وذلك من خلال تبني مشاكله والدفاع عنه بأسلوب مختلف عن أسلوب المعارضة.

نعم سيواجه تيار من أجل الوطن نيرانا من الأغلبية التقليدية ومن المعارضة، وهو ما سيزيد من حجم تحديات وصعوبات الولادة والنمو، ولكننا نأمل أن يتمكن التيار من فرض نفسه في الساحة السياسية، وهو سيتمكن من ذلك بالفعل إن استطاع أن ينجح في كسب ثقة فخامة رئيس الجمهورية، وكذلك في كسب ثقة المواطن.

ولكسب ثقة رئيس الجمهورية، فعلى التيار أن يثبت وجوده خلال الحملة الانتخابية الرئاسية القادمة، وأن يثبت للرئيس أنه قادر على تسويق منجزاته في فضاءات إعلامية ولدى جمهور من الداعمين لم تتمكن الأغلبية التقليدية بأساليبها التقليدية وبخطابه التقليدي أن تصل إليه.

ولكسب ثقة المواطن، فعلى التيار أن يثبت للمواطن أن تبنيه لهموم ومشاكل المواطن يختلف عن تبني المعارضة التقليدية لتلك الهموم والمشاكل، فكثير من المعارضين التقليديين لا يبحث عن حلول لتلك المشاكل والهموم، وإنما يستخدمها فقط ضد النظام إعلاميا وسياسيا، وقد لا يرغب أصلا في حلها، على العكس من تبني الداعمين غير التقليديين لتلك المشاكل والهموم، فهم يسعون بجد لإيجاد حلول لها، وذلك لشعورهم أنهم يتضررون من تلك المشاكل و يتضرر منها أكثر فخامة رئيس الجمهورية الذي يدعمونه بصدق وجدية، وبأسلوب يختلف عن الدعم التقليدي للأغلبية التقليدية، والتي تعودت منذ تسعينيات القرن الماضي، وحتى اليوم، على تجاهل تلك المشاكل بشكل كامل، واعتبارها وكأنها غير موجودة أصلا.   

حفظ الله موريتانيا..